كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلَمَّا كَانَتِ التَّذْكِيَةُ الْمُعْتَادَةُ فِي الْغَالِبِ لِصِغَارِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، هِيَ الذَّبْحُ- كَثُرَ التَّعْبِيرُ بِهِ، فَجَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ هُوَ الْأَصْلَ وَظَنُّوا أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ لِمَعْنًى فِيهِ، فَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ مَشْرُوعِيَّةَ الذَّبْحِ بِأَنَّهُ يُخْرِجُ الدَّمَ مِنَ الْبَدَنِ الَّذِي يَضُرُّ بَقَاؤُهُ فِيهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الرُّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ، وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا فِيهِ قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ وَالْمَرِّيءِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي تِلْكَ الشُّرُوطِ. وَإِنَّ هَذَا لَتَحَكُّمٌ فِي الطِّبِّ وَالشَّرْعِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَمَا أُحِلَّ الصَّيْدُ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْجَارِحُ مَيِّتًا، وَصَيْدُ السَّهْمِ وَالْمِعْرَاضِ إِذَا خَزَقَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَزْقَ لَا يُخْرِجُ الدَّمَ الْكَثِيرَ كَمَا يُخْرِجُهُ الذَّبْحُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الذَّبْحَ كَانَ وَلَا يَزَالُ أَسْهَلَ أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ؛ فَلِذَلِكَ اخْتَارُوهُ وَأَقَرَّهُمُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، كَمَا أَقَرَّهُمْ عَلَى صَيْدِ الْجَوَارِحِ وَالسَّهْمِ وَالْمِعْرَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنِّي لَأَعْتَقِدُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَوِ اطَّلَعَ عَلَى طَرِيقَةٍ لِلتَّذْكِيَةِ أَسْهَلَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَلَا ضَرَرَ فِيهَا- كَالتَّذْكِيَةِ بِالْكَهْرَبَائِيَّةِ إِنْ صَحَّ هَذَا الْوَصْفُ فِيهَا- لَفَضَّلَهَا عَلَى الذَّبْحِ، لِأَنَّ قَاعِدَةَ شَرِيعَتِهِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا مَا فِيهِ ضَرَرٌ لِأَنْفُسِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَمِنْهُ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ بِالْوَقْذِ وَنَحْوِهِ، وَأُمُورُ الْعَادَاتِ فِي الْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ لَيْسَتْ مِمَّا يَتَعَبَّدُ اللهُ النَّاسَ تَعَبُّدًا بِإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَحْكَامُ الْعِبَادَةِ بِنُصُوصٍ مِنَ الشَّارِعِ تَدُلُّ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْرَفُ مُرَادُ الشَّارِعِ وَحِكْمَتُهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ إِلَّا بِفَهْمِ كُلِّ مَا وَرَدَ فِيهَا بِجُمْلَتِهِ، وَلَوْ كَانَ إِقْرَارُ النَّاسِ عَلَى الشَّيْءِ مِنَ الْعَادَاتِ أَوِ اسْتِئْنَافُ الشَّارِعِ لَهَا حُجَّةً عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا، لَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي كَيْفِيَّةِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ، بَلْ هُنَالِكَ مَا هُوَ أَجْدَرُ بِالْوُجُوبِ كَالْتِزَامِ صِفَةِ مَسْجِدِهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْرُمُ فَرْشُهُ وَوَضْعُ السُّرُجِ وَالْمَصَابِيحِ فِيهِ.
وَقَدْ تَأَمَّلْنَا مَجْمُوعَ مَا وَرَدَ فِي التَّذْكِيَةِ، فَفَقِهْنَا أَنَّ غَرَضَ الشَّارِعِ مِنْهَا اتِّقَاءُ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَأَجَازَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَمَا مَرَاهُ أَوْ أَمْرَاهُ أَوْ أَمَرَّهُ، وَهُوَ دُونَ «أَنْهَرَهُ» فِي مَعْنَى إِخْرَاجِهِ أَوْ إِسَالَتِهِ، وَأَمَرَ بِأَنْ تُحَدَّ الشِّفَارُ، وَأَلَّا يُقْطَعَ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِ الْحَيَوَانِ قَبْلَ أَنْ تَزْهَقَ رُوحُهُ، وَأَجَازَ النَّحْرَ وَالذَّبْحَ حَتَّى بِالظِّرَارِ؛ أَيْ بِالْحِجَارَةِ الْمُحَدَّدَةِ، وَبِالْمَرْوِ، أَيِ الْحَجَرِ الْأَبْيَضِ، وَقِيلَ الَّذِي تُقْدَحُ مِنْهُ النَّارُ، وَبِشَقِّ الْعَصَا، وَهَذَا دُونَ السِّكِّينِ غَيْرِ الْمُحَدَّدِ بِالشَّحْذِ، وَلِكُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ مَا يُنَاسِبُهُمَا، فَإِذَا تَيَسَّرَ الذَّبْحُ بِسِكِّينٍ حَادٍّ لَا يَعْدِلُ إِلَى مَا دُونَهُ، وَإِذَا تَيَسَّرَ فِي الذَّبْحِ إِنْهَارُ الدَّمِ، يَكُونُ أَسْهَلَ عَلَى الْحَيَوَانِ وَأَقَلَّ إِيلَامًا لَهُ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى مِثْلِ طَعْنِ الْمُتَرَدِّيَةِ فِي ظَهْرِهَا أَوْ فَخْذِهَا، أَوْ خَزْقِ الْمِعْرَاضِ وَخَدْشِهِ لِأَيِّ عُضْوٍ مِنَ الْبَدَنِ، وَالرَّمْيِ بِالسَّهْمِ لِلْحَيَوَانِ الْكَبِيرِ ذِي الدَّمِ الْغَزِيرِ. رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الْقَوْمِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا، نَدَّ الْبَعِيرُ: نَفَرَ، وَحَبَسَهُ: أَثْبَتَهُ فِي مَكَانِهِ إِذَا مَاتَ فِيهِ بِرَمْيَةِ السَّهْمِ. وَاسْتَدَلَّ جُمْهُورُ السَّلَفِ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ مَا رُمِيَ بِالسَّهْمِ فَجُرِحَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَكِنِ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ وَحَشِيًّا أَوْ مُتَوَحِّشًا أَوْ نَادًّا، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا وَشَيْخَهُ رَبِيعَةَ، وَاللَّيْثَ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، لَمْ يُجِيزُوا أَكْلَ الْمُتَوَحِّشِ إِلَّا بِتَذْكِيَتِهِ فِي حَلْقِهِ أَوْ لُبَتِّهِ أَيْ: نَحْرِهِ.
(الْعَاشِرُ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) قَالَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ: نَصْبُ الشَّيْءِ: وَضْعُهُ وَضْعًا نَاتِئًا؛ كَنَصْبِ الرُّمْحِ وَالْبِنَاءِ وَالْحَجَرِ، وَالنَّصِيبُ الْحِجَارَةُ تُنْصَبُ عَلَى الشَّيْءِ، وَجَمْعُهُ نَصَائِبُ وَنُصُبٌ بِضَمَّتَيْنِ، وَكَانَ لِلْعَرَبِ حِجَارَةٌ تَعْبُدُهَا وَتَذْبَحُ عَلَيْهَا، قَالَ: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} (70: 43). قَالَ: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (5: 3) وَقَدْ يُقَالُ فِي جَمْعِهِ: أَنْصَابٌ. قَالَ: {وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ} (5: 90). اهـ. وَقَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالنَّصْبُ (بِالْفَتْحِ) وَالنُّصْبُ (بِالضَّمِّ) وَالنُّصُبُ (بِضَمَّتَيْنِ): الدَّاءُ وَالْبَلَاءُ وَالشَّرُّ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (38: 41). وَالنَّصِيبَةُ وَالنُّصُبُ بِضَمَّتَيْنِ: كُلُّ مَا نُصِبَ فَجُعِلَ عَلَمًا. وَقِيلَ: النُّصُبُ جَمْعُ نَصِيبَةٍ كَسَفِينَةٍ وَسُفُنٍ، وَصَحِيفَةٍ وَصُحُفٍ. اللَّيْثُ: النُّصُبُ: جَمَاعَةُ النَّصِيبَةِ، وَهِيَ عَلَامَةٌ تُنْصَبُ لِلْقَوْمِ، وَالنَّصَبُ بِالْفَتْحِ وَالنُّصُبُ بِضَمَّتَيْنِ: الْعَلَمُ الْمَنْصُوبُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} (70: 43) قُرِئَ بِهِمَا جَمِيعًا، وَقِيلَ: النَّصَبُ بِالْفَتْحِ: الْغَايَةُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مَنْ قَرَأَ {إِلَى نَصَبٍ} بِالْفَتْحِ؛ فَمَعْنَاهُ: إِلَى عَلَمٍ مَنْصُوبٍ يَسْبِقُونَ إِلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَ {إِلَى نُصُبٍ} بِضَمَّتَيْنِ؛ فَمَعْنَاهُ: إِلَى أَصْنَامٍ؛ كَقَوْلِهِ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الْفَرَّاءُ، قَالَ: وَالنَّصَبُ بِالْفَتْحِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَجَمْعُهُ الْأَنْصَابُ، وَالْيَنْصُوبُ: عَلَمٌ يُنْصَبُ فِي الْفَلَاةِ. وَالنَّصَبُ وَالنُّصُبُ: كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَالْجَمْعُ: أَنْصَابٌ. الْجَوْهَرِيُّ: وَالنَّصَبُ بِالْفَتْحِ: مَا نُصِبَ، فَعُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ النُّصُبُ بِالضَّمِّ، وَقَدْ يُحَرَّكُ مِثْلَ عُسُرٍ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالنُّصُبُ: الْأَوْثَانُ مِنَ الْحِجَارَةِ، جَمَاعَةُ أَنْصَابٍ كَانَتْ تُجْمَعُ فِي الْمَوْضِعِ مِنَ الْأَرْضِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُقَرِّبُونَ لَهَا، وَلَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ، وَكَانَ ابْنُ جَرِيجٍ يَقُولُ فِي صِفَتِهِ، وَذَكَرَ سَنَدَهُ إِلَيْهِ: النُّصُبُ لَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ، الصَّنَمُ يُصَوَّرُ وَيُنْقَشُ، وَهَذِهِ حِجَارَةٌ تُنْصَبُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ حَجَرًا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الثَّلَاثُمِائَةٍ مِنْهَا بِخُزَاعَةَ، فَكَانُوا إِذَا ذَبَحُوا نَضَحُوا الدَّمَ عَلَى مَا أَقْبَلَ مِنَ الْبَيْتِ، وَشَرَحُوا اللَّحْمَ، وَجَعَلُوهُ عَلَى الْحِجَارَةِ. قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ الْبَيْتَ بِالدَّمِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَهُ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللهُ: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (22: 37) ثُمَّ أَيَّدَ ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلَ ابْنِ جُرَيْجٍ بِمَا رَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: النُّصُبُ: حِجَارَةٌ حَوْلَ الْكَعْبَةِ تَذْبَحُ عَلَيْهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُبَدِّلُونَهَا إِذَا شَاءُوا بِحِجَارَةٍ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْهَا. وَقَوْلُ قَتَادَةَ: وَالنُّصُبُ حِجَارَةٌ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَهَا وَيَذْبَحُونَ لَهَا فَنَهَى الله عَنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْصَابٌ كَانُوا يَذْبَحُونَ وَيُهِلُّونَ عَلَيْهَا.
فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُذْبَحُ بِقَصْدِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ، فَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ قَدْ يَكُونُ لِصَنَمٍ مِنَ الْأَصْنَامِ بَعِيدًا عَنْهُ وَعَنِ النُّصُبِ، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ لابد أَنْ يُذْبَحَ عَلَى تِلْكَ الْحِجَارَةِ أَوْ عِنْدَهَا وَيُنْشَرُ لَحْمُهُ عَلَيْهَا.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا وَمِمَّا قَبْلَهُ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ عَشْرَةٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَأَرْبَعَةٌ بِالْإِجْمَالِ، وَكَمَا خَصَّ الْمُنْخَنِقَةَ وَمَا عَطَفَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَيْتَاتِ بِالذِّكْرِ بِسَبَبٍ خَاصٍّ مَعْرُوفٍ؛ لِئَلَّا يَغْتَرَّ أَحَدٌ بِاسْتِبَاحَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَهَا- خَصَّ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ بِالذِّكْرِ لِإِزَالَةِ وَهْمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِقَصْدِ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ غَيْرِ اللهِ عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ مِنْ خُرَافَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ بِمَحْوِهَا.
ثُمَّ عَطَفَ عَلَى مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَحِلُّونَهَا عَمَلًا آخَرَ مِنْ خُرَافَاتِهِمْ؛ فَقَالَ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ أَيْ وَحَرُمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَطْلُبُوا عِلْمَ مَا قُسِمَ لَكُمْ- أَوْ تَرْجِيحَ قِسْمٍ مِنْ مَطَالِبِكُمْ عَلَى قِسْمٍ- بِالْأَزْلَامِ كَمَا تَفْعَلُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنْ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ كَمَا يَأْتِي، وَالزُّلَمُ- مُحَرَّكَةٌ- كَصُرَدٍ؛ أَيْ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ: قَدَحٌ لَا رِيشَ عَلَيْهِ وَسِهَامٌ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، جَمْعُهُ أَزْلَامٌ، قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا قِطَعٌ مِنَ الْخَشَبِ بِهَيْئَةِ السَّهْمِ إِلَّا أَنَّهَا لَا يُلْصَقُ عَلَيْهَا الرِّيشُ الَّذِي يُلْصَقُ عَلَى السَّهْمِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ؛ لِيَحْمِلَهُ الْهَوَاءُ، وَلَا يُرَكَّبُ فِيهَا النَّصْلُ الَّذِي يَجْرَحُ مَا يُرْمَى بِهِ مِنْ صَيْدٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتِ الْأَزْلَامُ ثَلَاثَةً مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهَا: «أَمَرَنِي رَبِّي» وَعَلَى الثَّانِي: «نَهَانِي رَبِّي» وَالثَّالِثُ غُفْلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ سَفَرًا أَوْ غَزْوًا أَوْ زَوَاجًا أَوْ بَيْعًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَجَالَ هَذِهِ الْأَزْلَامَ، فَإِنْ خَرَجَ لَهُ الزُلَمُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ «أَمَرَنِي رَبِّي» مَضَى لِمَا أَرَادَ، وَإِنْ خَرَجَ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ «نَهَانِي رَبِّي» أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَمْضِ فِيهِ، وَإِنْ خَرَجَ (الْغُفْلُ الَّذِي لَا كِتَابَةَ عَلَيْهِ): أَعَادَ الِاسْتِقْسَامَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَمْرًا أَوْ سَفَرًا يَعْمِدُونَ إِلَى قِدَاحٍ ثَلَاثَةٍ، عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا مَكْتُوبٌ «اؤْمُرْنِي» وَعَلَى الْآخَرِ «انْهَنِي» وَيَتْرُكُونَ الْآخَرَ مُحَلِّلًا بَيْنَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُجِيلُونَهَا فَإِنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ «اؤْمُرْنِي» مَضَوْا لِأَمْرِهِمْ، وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي عَلَيْهِ «انْهَنِي» كَفُّوا، وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَعَادُوهَا. وَرُوِيَ عَنْ آخَرِينَ فِي الْكِتَابَةِ كَلِمَاتٌ أُخْرَى بِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، وَعَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ عِنْدَ الْكُهَّانِ؛ فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ أَوْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يُحْدِثَ أَمْرًا أَتَى الْكَاهِنَ فَأَعْطَاهُ شَيْئًا فَضَرَبَ لَهُ بِهَا، فَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ يُعْجِبُهُ مِنْهَا أَمَرَهُ فَفَعَلَ، وَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ نَهَاهُ فَانْتَهَى، كَمَا ضَرَبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَلَى زَمْزَمَ، وَعَلَى عَبْدِ اللهِ وَالْإِبِلِ.
وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتْ هُبَلُ أَعْظَمَ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ، وَكَانَتْ فِي بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَلَ سَبْعَةُ أَقْدَاحٍ كُلُّ قَدَحٍ مِنْهَا فِيهِ كِتَابٌ، أَيْ: (كِتَابَةُ شَيْءٍ) وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: قَدَحٌ فِيهِ الْعَقْلَ (أَيْ دِيَةُ الْقَتِيلِ) إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الْعَقْلِ مَنْ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ؟ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ السَّبْعَةِ، وَقَدَحٌ فِيهِ «نَعَمْ» لِلْأَمْرِ إِذَا أَرَادُوهُ، يَضْرِبُ بِهِ (أَيْ: يُجَالُ فِي سَائِرِ الْقِدَاحِ) فَإِنْ خَرَجَ قَدَحُ «نَعَمْ» عَمِلُوا بِهِ، أَوْ قَدَحٌ فِيهِ «لَا» فَإِذَا أَرَادُوا أَمْرًا ضَرَبُوا فِي الْقِدَاحِ، فَإِنْ خَرَجَ ذَلِكَ الْقَدَحُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَقَدَحٌ فِيهِ «مِنْكُمْ» وَقَدَحٌ فِيهِ «مُلْصَقٌ» وَقَدَحٌ فِيهِ «مِنْ غَيْرِكُمْ» وَقَدَحٌ فِيهِ الْمِيَاهُ؛ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا لِلْمَاءِ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ وَفِيهَا تِلْكَ الْقَدَّاحُ، فَحَيْثُ مَا خَرَجَ عَمِلُوا بِهِ. وَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِنُوا غُلَامًا، أَوْ أَنْ يَنْكِحُوا مَنْكَحًا، أَوْ أَنْ يَدْفِنُوا مَيِّتًا، أَوْ يَشُكُّوا فِي نَسَبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ذَهَبُوا إِلَى هُبَلَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبِجَزُورٍ- بَعِيرٍ يُجْزَرُ- فَأَعْطَاهَا صَاحِبَ الْقِدَاحِ الَّذِي يَضْرِبُهَا، ثُمَّ قَرَّبُوا صَاحِبَهُمُ الَّذِي يُرِيدُونَ بِهِ مَا يُرِيدُونَ، ثُمَّ قَالُوا: يَا إِلَهَنَا، هَذَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ قَدْ أَرَدْنَا بِهِ كَذَا وَكَذَا، فَأَخْرِجِ الْحَقَّ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ: اضْرِبْ. فَيَضْرِبُ فَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ «مِنْ غَيْرِكُمْ» كَانَ حَلِيفًا، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ «مُلْصَقٌ» كَانَ عَلَى مِيرَاثِهِ مِنْهُمْ، لَا نَسَبَ لَهُ وَلَا حِلْفَ، وَإِنْ خَرَجَ فِيهِ سِوَى هَذَا مِمَّا يَعْمَلُونَ بِهِ: «نَعَمْ» عَمِلُوا بِهِ، وَإِنْ خَرَجَ «لَا» أَخَّرُوهُ عَامَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ مَرَّةُ أُخْرَى، يَنْتَهُونَ فِي أُمُورِهِمْ إِلَى ذَلِكَ مِمَّا خَرَجَتْ بِهِ الْقَدَّاحُ. اهـ.
وَالظَّاهِرُ مِنِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِ الْكَهَنَةِ أَزْلَامٌ غَيْرُ السَّبْعَةِ الَّتِي عِنْدَ هُبَلَ، الَّتِي يَفْصِلُ فِيهَا فِي كُلِّ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّفُونَ قِسْمَتَهُمْ وَحَظَّهُمْ، أَوْ يُرَجِّحُونَ مَطَالِبَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اللَّعِبِ الَّذِي يَسْكُنُ بِهِ اضْطِرَابُ نُفُوسِ أَصْحَابِ الْأَوْهَامِ، وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ الْأَزْلَامَ: بِكِعَابِ فَارِسَ وَالرُّومِ الَّتِي يَقْمُرُونَ بِهَا، وَسِهَامَ الْعَرَبِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْأَزْلَامُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَافْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ، وَقَدْ زُلِمَتْ وَسُوِّيَتْ وَوُضِعَتْ فِي الْكَعْبَةِ يَقُومُ بِهَا سَدَنَةُ الْبَيْتِ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدٌ سَفَرًا أَوْ نِكَاحًا أَتَى السَّادِنَ وَقَالَ: أَخْرِجْ لِي زُلَمًا، فَيُخْرِجُهُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ. إِلَخْ. قَالَ: وَرُبَّمَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ زُلَمَانِ وَضَعَهُمَا فِي قِرَابِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِقْسَامَ أَخْرَجَ أَحَدَهُمَا. اهـ. وَهَذَا مَحِلُّ الشَّاهِدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْأَزْلَامَ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا النَّرْدُ وَالشَّطْرَنْجُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا سِهَامَ الْمَيْسِرِ فِي تَفْسِيرِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (2: 219) وَهِيَ عَشَرَةٌ، لَهَا أَسْمَاءٌ لِسَبْعَةٍ، مِنْهَا أَنْصِبَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ، فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ (ص 258 ج2 ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ) وَاللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ اسْتِقْسَامًا، وَقَدْ يُسْتَقْسَمُ بِهِ.
أَمَّا سَبَبُ تَحْرِيمِ الِاسْتِقْسَامِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْأَصْنَامِ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ عَامٌّ يَشْمَلُ مَا كَانَ عِنْدَ الْأَصْنَامِ وَمَا لَمْ يَكُنْ؛ كَالزُّلَمَيْنِ اللَّذَيْنِ يَحْمِلُهُمَا الرَّجُلُ مَعَهُ فِي رَحْلِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ طَلَبٌ لِعِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَطْلُبُ بِهَا عِلْمَ الْغَيْبِ فِي مِثْلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، عَلَى أَنَّ جَعْلَ هَذَا مُحَرَّمًا وَعِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ، غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِرَدِّهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهَا افْتِرَاءً عَلَى اللهِ إِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ «أَمَرَنِي رَبِّي» اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَهْلًا وَشِرْكًا إِنْ أَرَادُوا بِهِ الصَّنَمَ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ بَعْضِ الْأَزْلَامِ لَا عَنْ كُلِّهَا.
وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا قَدْ حُرِّمَ لِأَنَّهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ الَّتِي لَا يَرْكَنُ إِلَيْهَا إِلَّا مَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْعَقْلِ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، وَيَتْرُكُ مَا يَتْرُكُ عَنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، وَيَجْعَلُ نَفْسَهُ أُلْعُوبَةً لِلْكَهَنَةِ وَالسَّدَنَةِ، وَيَتَفَاءَلُ وَيَتَشَاءَمُ بِمَا لَا فَأْلَ فِيهِ وَلَا شُؤْمَ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ دِينُ الْعَقْلِ وَالْبَصِيرَةِ وَالْبُرْهَانِ، كَمَا أَبْطَلَ التَّطَيُّرَ وَالْكِهَانَةَ وَالْعِيَافَةَ وَالْعِرَافَةَ وَسَائِرَ خُرَافَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَّا بِجَهْلِ الْوَثَنِيَّةِ وَأَوْهَامِهَا.